قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي .
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أيها الإخوة الكرام : إنسان سأل عالماً عن مقدار الزكاة ، هذا العالم قال له : عندنا أم عندكم ؟ قال : يا سيدي ما عندنا وما عندكم ؟ دين واحد قال : أما عندكم فاثنان ونصف بالمئة ، أما عندنا فالعبد وماله لسيده ، إشارة بهذا القول إلى أن صنفاً من الناس وهَبوا أعمارهم وأموالهم وأوقاتهم وجهدهم لله عز وجل ، هؤلاء ذكروا في القرآن الكريم بأنهم :
والسابقون السابقون (10) اولئك المقربون(11)
(سورة الواقعة)
هؤلاء أشير إليهم من خلال هذه الآية :
واصطنعتك لنفسي
(سورة طه)
عامة المؤمنين المستقيمين الملتزمين يعملون ، ويتاجرون ليكسب المال ، ويأكلون ، ويستمتعون ، ويصلون ، ويصومون ، ويحجون ، ويؤدون الزكاة ، هذا الصنف من أصحاب اليمين ، أما :
والسابقون السابقون (10) اولئك المقربون(11) في جنات النعيم(13)هؤلاء الذين أشير إليهم من قوله تعالى :
قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162)
(سورة الأنعام)
فالمؤمن الصادق إن أراد أن يكون طموحاً يهب علمه لله ، يختار فرعًا يعينه على نشر الحق ، يختار حرفة يقدم من خلالها للمسلمين أعمالا صالحة ، يدخل الدار الآخرة في كل حساباته ، كيف أن الهدف إذا كان واضحاً وضوح شديداً ، فكل الجزئيات تنسجم مع هذا الهدف ، فهذه الآية :
قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162)
وآية :
والسابقون السابقون (10) اولئك المقربون(11) في جنات النعيم(13)
وآية :
واصطنعتك لنفسي(41)
أنت لي ، بالمناسبة يقولون : الماء للتراب ، والتراب للنبات ، والنبات للحيوان ، والحيوان للإنسان ، والإنسان لله ، وحينما تكون لغير الله تحتقر نفسك ، بدليل قول الله عز وجل :
ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه
(سورة البقرة)
لا يليق بك كمخلوق كرمك الله ، وسخر لك ما في السماوات والأرض ، وكلفك أن تعبده ، وتحبه ، لا يليق بك أن تكون لغير الله ، وحينما تكون لغير الله تسقط من عين الله ، ولأن تسقط من السماوات إلى الأرض فتحطّم أضلاعك أهون من أن تسقط من عين الله ، لا يليق بك لأن تكون لغير الله .
بتفصيل أدق : زواجي ، وإنجاب أولادي ، وسكني ، وحرفتي ، ووقت فراغي ، وقوتي ، ومالي ، وصحتي ، وذكائي ، وقلمي ، واختصاصي لله رب العالمين ، هذه مرتبة عالية أشير إليها :
أنت يا موسى لي ! لذلك المؤمن إذا طمح لمقام عال عند الله يكون في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، وقته لله .
أذكر قصة إنسان دخل مسجدًا ، وضع معطفه على مشجب ، وتوضأ ، فَقَدَ المعطف ، وفيه مبلغ كبير ، وهو من بلدة بعيدة في الشمال ، دخل على إنسان ، وطلب منه مئتي ليرة فقط فطرده ، وهو يصلي في المسجد ، ما قيمة صلاتك وعبادتك إن لم يكن في قلبك رحمة؟؟!!
حياناً الإنسان يقسو ، ودائماً إن لم تثمر العبادة رحمة بالخلق ، وإنصافاً ، وتواضعاً ، وعملاً صالحاً فلا قيمة لها إطلاقاً ، فالمحصلة تعاون ، وبذل ، وتضحية ، وانضباط ، وتواضع ، فهذا الذي تردد عشر ثوان في بذل روحه هبط مقامه عند الله عز وجل ، و نحن نتردد في حضور درس ، وفي النطق بكلمة حق ، وفي موطن دقيق .
أيها الإخوة : هذه الآية يجب أن تدع في نفوسكم أثراً بليغاً :
ممكن أن يكون كل وقتك لله عز وجل ، وكل إمكاناتك ، وطاقاتك ، ومواهبك لله بحكمة ، ليس لك حظ نفسي ، هذه مرتبة عالية ، فرمضان قد يكون شهر توبة لواحد ، وشهر رقي لواحد ، وشهر تألق لواحد ، فكن طموحاً .
أنت لست نبياً ، لكن تجد المؤمن وقته كله لله ، لا يرد طلبًا لأهل الحق ، فهو في خدمة الحق ، وقته وليله ونهاره .
سيدنا عمر جاءه رسول من أذربيجان ، وصل المدينة في منتصف الليل ، فكره أن يطرق باب أمير المؤمنين ، فدخل المسجد ، فسمع صوتاً يناجي يقول : يا رب هل قبلت توبتي فأهنئ نفسي ، أم رددتها فأعزيها ؟ فقال : من أنت يرحمك الله ؟ قال : أنا عمر ، قال : يا سبحان الله ! ألا تنام الليل ؟ قال : إني إن نمت ليلي كله أضعت نفسي أمام ربي ، وإن نمت نهاري أضعت رعيتي ، إن لله عملاً بالليل لا يقبله بالنهار ، وإن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل ، فنحن في عبادة إن شاء الله ، وفي قيام ليل ، وفي قيام التراويح ، وفي شهر صيام ، شهر التوبة ، ولا تنسوا هذا الحديث : ((صعد النبي عليه الصلاة والسلام المنبر فقال : آمين ، صعد الدرجة الثانية فقال : آمين ، صعد الدرجة الثالثة فقال : آمين ، فقالوا له : علام آمنت يا رسول الله ؟ قال : جاءني جبريل فقال لي : رغم أنف عبد أدرك رمضان فلم يُغفر له ، إن لم يُغفر له فمتى ؟ ورغم أنف عبد أدرك والديه فلم يدخلاه الجنة ، ورغم أنف عبد ذكرتَ عنده فلم يصلّ عليك)) .
(ورد في الأثر)
نحن في شهر رمضان ، هذه فرصة ، أن تفتح مع الله فرصة جديدة .
والحمد لله رب العالمين .
المصدر: موقع الدكتور راتب النابلسي